Monday, May 23, 2011

فنجان قهوة


! " تعلمت المسيحية تحت " القمر



أ/ رجب سعيد


فنجان قهوة
بقلم / رجب سعيد


يقولون "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر والتعليم في الكبر كالرقم على الماء" كلمة جميلة حقا تعبر عن حقيقة علمية راسخة لا تقبل الجدل بحال من الأحوال، بل وتؤكدها ممارساتنا الحياتية التي توضح لنا هذا المعنى وتبرزه بجلاء، أقول هذا وأنا رجل تخطيت مرحلة الشباب ووقعت يد الزمن على ملامح وجهي وخريطة رأسي بما يؤكد أنني دخلت مرحلة الكهولة، إن ما تعلمناه ونحن صغار يظل محفورا في ذاكرتنا لا يغادرها أبدا فمعلوماتنا القديمة حجزت لها مكانا مميزا في أرشيف ذاكرتنا انتقته بعناية، ولم لا وقد اقتطعته من مساحة بكر لم تطأها قدم معلومة من قبل ولم يلق في مائها بحجر!

بدأت دراسة اللغة الإنجليزية مثلي مثل أقراني في المرحلة الإعدادية (الحلقة الثانية من التعليم الأساسي اليوم) وطبعا كانت المرحلة الإعدادية تمثل لنا نقلة نوعية في حياتنا الدراسية وكتلميذ في مثل هذه السن المبكرة من حياتي كنت أختصر ملامح هذا التغيير في شيئين اثنين الأول شكلي وهو التحرر من "المريلة البيج" التي لازمتني ست سنوات من عمري حتى كدت أن أكره هذا اللون بسببها، ولا أدرى لم الإصرار على ارتداء طلبة المدارس الابتدائية هذا اللون الممرض الخالي من أي معنى للبهجة فهو لون في رأيي كئيب بئيس يبعث على المرض، ولم لا وهو قريب من اللون الأصفر علامة المرض والاعتلال؟! كذلك فإنه لون سريع التغير وسرعان ما يبهت وتصبح ملابس الطلبة بلا هوية لونية فلا تعرف إن كانت صفراء أم بيضاء أم بين بين؟! أما الشيء الثاني فهو دراسة اللغة الإنجليزية فهي المادة الجديدة بالكلية في هذه المرحلة وطبعا تكون معلوماتنا عن هذه اللغة قبل تلك المرحلة صفرا كبيرا لأننا لم نكن نعرف مرحلة الروضة الموجودة حاليا ولم يكن الألف أرنبا ينط ويلعب كما هو الآن!! فقد كان الألف في مخيلتنا على أيامنا تلك هو "خرزانة" المدرس الطويلة التي لا ترحم!

في المرحلة الإعدادية يكون عود الطالب قد اشتد قليلا وهذا يعني لدى المرضى والمعاقين من المدرسين (الذين كاد الواحد منهم أن يكون رسولا!) أننا صرنا فرائس سمينة فأجسادنا أصبحت تتحمل الأذى البدني أكثر مما يجعلنا قادرين على إشباع رغبات المدرسين الساديين الذين يتلذذون بأنات تلاميذهم، وبالتالي فوصلات العقاب البدني أصبحت ممتدة وعدد العصي الذي يشفي غليل المدرس تضاعف، أنا عن نفسي كنت طالبا ملتزما تعودت أن أفعل ما يطلب مني بحذافيره، وأستطيع أن أدعي أنني كنت في مأمن عن العقاب إلى حد ما، لكنني كنت أتألم كثيرا للمشاهد بل المجازر التي كان ينخلع لها قلبي في الفصل من مدرسين مهووسين بالعقاب والضرب بطرق وحشية غاية في القسوة والفظاعة، وقد كان بعض المدرسين يقضون جزءا كبيرا من الحصة الدراسية في تنفيذ الأحكام بدلا من الشرح كما لو أنه جاء ليضرب لا ليشرح!

المهم لا أريد أن أسترسل في الحديث عن هذا الماضي المؤلم الذي غابت فيه عن مدارسنا مناهج التدريس والتربية وكان سببا في تفلت الكثير من زملائنا بالدراسة وتفضيلهم حياة الفلاحة بما فيها من تعب وشظف العيش على حياة المدرسة التي تمتهن فيها كرامة التلميذ بدعوى تعليمه!! لكنني اريد أن أركز الضوء على مشهد بئيس له ارتباط بما نعانيه اليوم في مجتمعنا من نزاع طائفي على أساس اختلاف الدين وهو مرتبط أيضا بتدريس اللغة الإنجليزية، فقد كان معلمو اللغة الإنجليزية في هذه الفترة معظمهم من المسيحيين إذ يبدو أن دراسة اللغة الإنجليزية حتى هذا العهد لم تكن تستهوي المسلمين إذ يعتبرون ذلك صورة من صور التغريب والانفلات من تقاليد المجتمع المسلم المحافظ، وبالمقابل فإن المسيحيين لا يدخلون معاهد وكليات اللغة العربية التي تشكل واجهة للدين الإسلامي وتمتزج فيها دراسة اللغة بدراسة الدين الإسلامي فكانوا يقبلون على تعلم اللغتين الإنجليزية والفرنسية فهي ترضي طموحهم وتطلعاتهم المتجهة غربا دائما، وعلى هذا الأساس كان البعض من مدرسي اللغة الإنجليزية يدرسون الدين المسيحي للطلبة المسيحيين، وكان معلم اللغة الإنجليزية في مدرستي الإعدادية من هؤلاء وكان اسمه الأستاذ طلعت، كان رجلا قوي الشخصية حادا متجهما لا يبتسم أبدا دقيقا في عمله إلى حد الصرامة لا يتهاون في صغيرة ولا كبيرة فإذا دخل الفصل وقف أمام السبورة دقيقة أو اثنتين يرقب تلاميذه بنظرة شاخصة فيقف كل منا في مكانه منتصبا كأنه لوح من خشب، يده إلى جانبه ورأسه مرفوع إلى أعلى شاخصا ببصره إلى الأمام، تماما كما لو كان في طابور عسكري، والويل كل الويل لمن يفرط في شيء من ذلك.
فهمت بعد ذلك أن الدقة التي كان يتمتع بها الأستاذ طلعت كانت مكتسبة من حرفة يمتهنها مع عمله كمدرس وهي تصليح الساعات فقد كانت حقيبته (الديبلوماسي) مليئة بعدد كبير من الساعات وبعض الأدوات اللازمة للصيانة!! كان الأستاذ طلعت هو رائد فصلنا فضلا عن كونه مدرس اللغة الإنجليزية لنا، وعليه كان كثيرا ما يدخل لنا احتياطيا عندما يتغيب مدرس إحدى المواد الأخرى، وكان هذا يحدث كثيرا، وعليه كان من الممكن أن يعطينا حصة اللغة الإنجليزية ثم يظل بالفصل حصة أخرى وربما حصتين احتياطيا!!
وحتى لا يضيع الأستاذ طلعت وقته هباء كان يدرس للطلبة المسيحيين الدين المسيحي في الفصل ونحن موجودون، فيجمع الطلبة المسيحيين من فصلنا ومن الفصول الأخرى (كان عددهم تقريبا يتجاوز أصابع اليد الواحدة بقليل) ويدرسهم في الفصل استثمارا لوقته أو ربما لأنه لم تكن هناك غرف مخصصة لهؤلاء الطلبة لدراسة دينهم، وحتى يوجد الأستاذ طلعت جوا من الهدوء لطلبته المسيحيين ولا يشتت أذهانهم كان يأمرنا بأن نضع رؤوسنا على سطح التختة بعد أن نتربع بأيدينا عليها (وهو ما يعرف بوضع القمر) ويظل الواحد منا منكفئا على التختة لمدة ساعة إلا ربعا في وضع أشبه بمن تغمى عينيه في غرف التحقيق حتى لا يدرك ما حوله، وهو وضع كان يمثل لدينا إيذاء نفسيا رهيبا، فقد كنت أقترب من الانفجار وأنا على هذه الوضعية ، وكانت نفسي تحدثني مرارا بالتمرد على هذا الوضع والصراخ في الفصل من أجل التحرر من هذه العبودية، وأذكر أن هذا الوضع كان يمتد في بعض الأحيان إلى حصتين لا حصة واحدة مما كان يصيبنا بالضجر الشديد ويجعل الدم يغلي في عروقنا من شدة الحزن والألم، وعلى وقع هذا الوضع البائس وفي هذا الجو الكئيب كانت تترامى إلى مسامعي كلمات المدرس وهو يشرح الدين المسيحي لطلابه، شربت بعض تعاليم المسيحية رغما عني وأحسست بعلقمها لا لما تدعو إليه ولكن بسبب الوضع الشاذ الذي كنا فيه ونحن نتعرف إليها، لقد بعث هذا المدرس، سامحه الله، إلى نفوسنا ونحن صغار رسائل ممتدة من الكراهية للدين المسيحي وأتباعه بأسلوبه المتخلف البعيد كل البعد عن مبادئ التربية السليمة دون أن يدري!!

ومن المفارقة أيضا أنه في حصة التربية الإسلامية كان يسمح للطلبة المسيحيين بالخروج من الفصل ومن ثم يتوجهون إلى فناء المدرسة للعب واللهو أو ربما شاهدنا البعض منهم يتناول السندويتشات في حين نتلقى نحن العقاب الأليم على عدم الحفظ أو نجبر على ترديد خمس آيات من القرآن لعدد لامتناه من المرات!! وربما سمحوا لهم بالانصراف لأن حصص الدين كانت غالبا في نهاية اليوم الدراسي ما يعني أننا نكون قد مللنا من طول الوقت وتعبت أذهاننا من كثرة ما حشيت به من معلومات وأحسسنا بالجوع الشديد وغلبنا النعاس بفعل حرارة الجو الخانقة مع كثافة الفصول المرتفعة والمقاعد الخشبية "المحززة" التي أثرت في أجسادنا بفعل خشونتها وصلابتها، وعليه فإننا أحسسنا بنوع من التمييز في مرحلة مبكرة من عمرنا وأصبح ديننا عبئا على نفوسنا كما أصبح الدين المسيحي مصدر قهر كبير لنا في حياتنا وكان علينا تجرع ذلك كله رغما عنا!

إن مدارسنا ومناهج تعليمنا بحاجة إلى مراجعة وتمحيص وإعادة صياغة لتتواءم مع متطلبات عصرنا وروحه كي نضع أرجلنا من جديد على الطريق الصحيح وأنا من هذا المكان أهمس في أذن كل مدرس محترم بألا يستصغر عاقبة أي تصرف أو سلوك يمارسه في فصله وأمام طلبته وليعلم أن ما يقدمه لطلبته في هذه المرحلة المبكرة من عمرهم هو بمثابة الأساس الذي تنبني عليه شخصياتهم فيما بعد وسيكون من الصعوبة بمكان أن نعدل الأساس بعد أن يكون البناء قد تم إلا أن نحلم بأن نهدم البناء من أساسه لنعيد بناءه من جديد وهو ضرب من المستحيل!

آخر رشفة

للإمام علي رضي الله عنه كلمة جميلة وحكيمة لو عملنا بمقتضاها اليوم لحلت هذه المشكلة الأبدية التي تنغص علينا حياتنا وتؤرق مضاجعنا، يقول كرّم الله وجهه: "الناس صنفان، أخ لك في الدين أو نظير لك في الإنسانية".